17 ديسمبر 2012

التاريخ المهدور للبَلوُش: قراءة لكتاب البلوش وبلادهم في دليل الخليج

التاريخ المهدور للبَلوُش- إبراهيم محمود- باحث من سوريا

"قراءة في كتاب: البلوش وبلادهم في دليل الخليج"


ثلاث حالات تجاذبتني وأنا بصدد قراءة كتاب ( البلوش وبلادهم في دليل الخليج:1515-1908، "والذي صنَّفه وصوَّبه وعلَّق عليه "أحمد بن يعقوب المازمي" وهو من منشورات "مؤسسة الانتشار العربي"، بيروت/2012، وفي "472 صفحة") من القطع الكبير، وفي تجليد سميك وأنيق.هي قراءة ولو موجزة ومن باب الواجب المعرفي والوجداني:

أما الحالة الأولى، فتخص الفضول والشوق معاً: أي السعي إلى الإحاطة بتاريخ ربما هو خاف ٍ على الكثيرين، تاريخ شعب، كما أنه تاريخ أمة مقسَّمة بين شعوب وأمم، وأعني بذلك" البَلوُش"، فضول يتركز على مكاشفة المزيد، وشوق إلى استكمال صورة معينة، تمكنّني من الحديث عن عراقة هذا الشعب/ الأمة في مناسبة ما، أو موضوع ذي صلة.

والحالة الثانية، تقوم على المتعة، حيث إن الكتاب جرى ترتيبه بطريقة، لا اعتقدها مملَّة، كما أنها في تنوع أبوابها، وفقراتها، تترك المجال واسعاً للمعني، في من يتابع مجريات الأحداث بأريحية، بأسلوب واضح وسلس كذلك.

وتبقى الحالة الثالثة، وتتصل بسابقتيها، كما أنها تتأتى عنهما، وهي الوجدانية في الكتابة عبر التعريف بالكتاب، وتقديم المعلومة الأكثر قابلية لانتباه المختصين والمتابعين لحقول معرفية على هذه الشاكلة.

ولكي أضفي علامة فارقة على هذه المتابعة، فهي تلك التي تشدني إلى المناخ السياسي والاجتماعي والإنساني للكتاب بالذات، وذلك الدافع المعرفي والأخلاقي الذي حفّز في القائم عليه، على إظهاره بالطريقة هذه، مناخ يضعني في واجهة الحدث: القاسم المشترك بين بلوشيته، وكرديتي، دون ادّعاء الترفع أو التميز عما أعيش بينهم من ذوي اثنيات أخرى، حيث صادفت، وفي أكثر من نقطة، مدى التشابه بين موقعيْنا اثنياً أو قومياً بالمعنى الواسع للكلمة. وزاد من عمق الصّلات هذه، ما تلمسته من لفتة كريمة وشغلت ذهني كثيراً، تتخلل إهداء المصنف والمصوّب والمعلّق عليه كتابَه إلي، من الإمارات، كما أعتقد، وأنا مقيم في قامشلي/سوريا، وفي كتابة اسمه بالكامل تحت الإهداء" أحمد يعقوب البلوشي الكوردي"، ونوعية العلاقة بينه وبين صفة الكردية هذه..كما أنه خص كتابي" القبيلة الضائعة، بيروت/2007" بالتذكير بمقبوس منه. إنها نقاط تؤخذ بعين الاعتبار، مثلما أنها حثَّتني على الإحاطة بالكتاب، ساعة استلامي له، عن طريق أحد الأصدقاء في دمشق.

في سياق تاريخ مهدور لأمة قائمة وشعب مكافح

يعتبَر وضع الخرائط من بين الألعاب الأكثر ارتهاناً للسياسات الدولية، لأنها تميّز حدوداً عن بعضها بعضاً، وفق اعتبارات مصالحية، دونما نظر في خاصيات الشعوب القائمة وتوضُّعها الجغرافي أو عددها، لا بل ، يكون هذا الامتداد الجغرافي، والحضور الديموغرافي مفْصلاً حاسماً، وحتى سحرياً في وضع الحدود هذه وتعميقها، وتفعيل صراعات تستمد مقومات وجودها من هذه الحدود بالذات، ودينامية المبعَثرين فيما بينها، وذلك استناداً إلى استراتيجيات القوى البعيدة المدى وما يُتوخى منها. هذه الخرائط، لحظة النظر فيها، وقراءة إحداثياتها، ومكاشفتها بنيوياً، تقدم لنا صورة صادمة وفظيعة أيضاً، عن كيفية توضع الأمم وترتيبها في مواقع تسميها عبر دول وأنظمة تمثلها، واعترافات دولية وأممية خاصة، وسوى ذلك من الإجراءات التي تدخل في نطاق التاريخ المهدور لأمة دون أخرى، أو شعب دون آخر، حيث تتراجع جمهرة كاملة من الأخلاقيات ذات الصلة بما هو إنساني وقيمي وتراحمي، إنها لوثة الذهنية البراغماتيكية العالمية.

ومفهوم" الخارطة" دقيق هنا، بما أنها لا توضع اعتباطياً، إنما عبر إزاحات وانزياحات مصائر والعبث بها، بذرائع لا يمكن تقويمها انطلاقاً من الجغرافيا أو التعداد السكاني، إنما اتفاقيات تواطؤية وتقديرات تلوّن الجغرافيا وتاريخها.

إن مجرد تأمل خريطة العالم السياسية، تحديداً، وعلى خلفية أخذ العلم بالحضور المتنوع لأمم وشعوب موزعة على أطلس العالم" ثقيل الوطء" بنتائجه المأسوية، يقرّب الصور الشاملة، ومفارقات الحضور والغياب الفعليين لأمم وشعوب، من خلال المساحة الجغرافية، والانتشار العددي، كما لو أن ثمة جغرافية مؤدلجة، لا بل ملوثة بالإيديولوجيا تفعّل ما تقدم!

ولعل كتاب( البَلوش وبلادهم في دليل الخليج:1515-1908)، والسالف ذكره، داخل في سياق "لعبة الأمم" بامتياز.

إنها اللعبة التي تتخذ أشكالاً وألواناً من التجاذب المادي والمعنوي بين أطراف النزاع المختلفة، وموقع" الضحية" بمعناها الجغرافي والتاريخي، وأعني بذلك الأمة كاملة أو الشعب بكامله، من خلال إزاحته عن حقيقته ضمن وحدة جغرافية، وكذلك في إطار علاقات دولية تعترَف به، وفق دساتير معتمدة بين الدول ذات الاستقلالية هنا وهناك.

وما يمكنني قوله، وأنا بصدد مطالعة في الكتاب هذا، هو أن الباحث مارس ثلاث مهام ٍفي مهمة واحدة، وكل مهمة هي في وجه من وجوهها الثقافية، بمثابة تأليف، وربما أكثر خطورة وحساسية من ذلك، كون التأليف يسمي طرفاً ما، والمسئولية تحال عليه هو وحده، بينما في الجانب الآخر، فثمة التزام الأمانة والدقة في القراءة والتأني في المتابعة والتقويم.

لدينا التصنيف، وهو ينصبُّ على الانشغال بعمل منتَج أو مؤلَّف سابقاً، والمطلوب هو عدم الإغفال عن الوارد في سياق الموضوع الذي يخدم العنوان بالذات.

وهناك التصويب، وهذا من جهته، يقابل معلومة ليست دقيقة، ودقتها تتطلب إحاطة تاريخية وثقافية أو علمية بها، قد تحتاج إلى أكثر من مصدر، وما في ذلك من إعمال الذهن وحتى الرأي الذاتي أحياناً عند الضرورة.

ويبقى التعليق، الذي يأتي في إطار المقروء أو المصنَّف، حيث يتقاسم الرفض والقبول إياه، كما أن الذي قد يحفّز الباحث إلى إثارة مسألة لغوية أو تاريخية أو ثقافية....الخ، تعمّق العلاقة مع النص، كما أنها تجلو الشخصية البحثية هنا.

والناظر في الكتاب، يلاحظ تفاوتاً في كل حالة، تبعاً لزاوية الرؤية وطريقة التلقي للمعلومة المنقولة، ومدى التنبه لها.
لكن ما يبقى في الواجهة، هو ذلك التكامل في الموضوع، وأعني بذلك التشديد على أن ثمة أمة عتّم عليها تاريخياً، هي أمة البلوش، وأن شعباً يستحق أن يكون في دولة جرت بعثرته في مهب سياسات دولية وإقليمية ومحلية، هو شعب البلوش، وأن محضر الجريمة المتعلقة بذلك، قد أغلق عليه منذ عام 1908، كما لو أن مصير البلوش قد قرّر نهائياً، ليبقى التاريخ شاهداً على صراعات جانبية وخفية، ومواجهات مختلفة، تسمّي البلوش ومن ينتمون إليهم في جهات الأرض قاطبة.

إنها القراءة التي استدعت في القرب، ما أثاره ادوارد سعيد، ولو بنوع من الحدّة، في كتابه المعروف( الاستشراق: المعرفة. السلطة. الإنشاء)، وكيفية التفاعل بين مكوّنات هذا الثالوث" المعرفة ومصادرها طبعاً، والسلطة ومغذياتها الوظيفية، والإنشاء وما فيه من خطاب مركَّز ومدروس"، وكما في فصل( التعرف على الشرق)، وما يمكن أن يستخلَص من هذا الفصل لمعاينة تباينات القوى عالمياً، ومن ثم ما أثاره بحرَفية ثقافية أكثر، في ( الثقافة والإمبريالية)، وصلة الوصل بين كل من الكاتب المنتمي إلى الحاضرة الإمبريالية، وحزَم الثقافة المعتمدة تجاه الآخر، إذ تحضر الجغرافيا بكامل أساسياتها البيئية والمناخية والمقيمين فيها، وسيكولوجياتهم.
إذاً، ثمة بانوراما تاريخية وجغرافيا منهوبة، مزوَّرة أو محوَّرة، كما هو حال كل جغرافية تغدو لقيا لصوصيات أممية تسمّي عنف أنظمتها، ورأسمالاً متجدداً ومستثمراً، يطال حدوداً ملغاة، ونفوساً يُستبدُّ بها، من بداية أُرّخ لها سنة1515م( هذا يذكّرني بمعركة" جالديران" بين العثمانيين والصفويين، في تاريخ مشابه تقريباً 1514م، إذ جرى تقسيم كردستان بينهما).

حكاية الكتاب

وأسمّيها الحكاية نظراً لأن المدوَّن يجمع بين المَروي على لسان مؤلّه الرحالة، ومن ينتمي إلى عالم ثقافي" غربي" وهو الرحالة البريطاني جون جوردن لوريمر، والذي لا يمكن إقصاؤه عن مغذيات سياسية ومعتقداتية استعمارية بريطانية، وذلك في كتابه( دليل الخليج الفارسي، وعُمان وأواسط الجزيرة العربية)، ونظراً للتحفظ المؤسساتي والاستعماري البريطاني عليه، يكون للعمل تصريف فكري وإيديولوجي مرافِق، وهو في عدة مجلدات، ويضم جانبَي الجغرافيا والتاريخ، وما يشبه إقراره بهذه الحقيقة يشي بذلك في شأن الكتاب( إن الأهمية المتزايدة للخليج بعد عام 1899، أدت إلى الشعور بالحاجة إلى وجود دليل جغرافي وتاريخي لتلك المنطقة، ليوضع في متناول المسؤولين السياسيين.ص29).

إن ما ورد على لسان الباحث عن جهود لوريمر، يقرّبنا من طبيعة عمله الثرية والمذهلة، بحجمه ومراميه وما تضمنه من معلومات جغرافية وتاريخية، كأن المتوخَّى كان الآتي: كيفية توضيح كل شيء، لحيازة كل شيء، فلا يبقى من شيء خارج السيطرة المؤسساتية أو الاستعمارية وما يخدم الجهاز الثقافي المغوي والاستعماري وحتى الامبريالي وما يلي المرحلة الامبريالية حديثاً، أي في زمن الكولونيالية المعولمة وتقنياتها المستحدثة في السيطرة( اعتمد ج.ج. لوريمر وأعوانه في هذا القسم" الجغرافي والإحصائي" على معلومات استخبارية وعمل ميداني بالإضافة إلى مؤلفات الرحالة السابقين مثل دوتي، بالجريف، بوركهاردت.ص30)، وهذا يشدّد على صيغة الجمعية المشتركة في البحث، بما أن النشاط الجغرافي هو مسح ميداني يطال الكائنات والجمادات وتوضعاتها وإحداثياتها المكانية وخاصيات المناخ والبيئة، وأن النشاط التاريخي يشكل إعادة تركيب للجغرافيا تبعاً للسياسات القائمة ورهاناتها، حيث التاريخ يلوّن الجغرافيا برغباته.


المقدمة

إنه مدخل إلى الجغرافيا والتاريخ البلوشيّين. يأتي التنوير المتعلق بما هو توصيفي بداية
(لقد أثرت خصوصية جغرافية بلوشستان وموقعها الجيوسياسي في تشكيل الشخصية البلوشية، ورؤيتها للعالم، والطريقة التي حافظت فيها على عناصرها الثقافية وتمايزها في المنطقة... ص 15). توصيف لا يتضمن حُكماً أخلاقياً أو جمالياً، إنما هو إفصاح عن واقع حال بيئي وثقافي معاً، يمكن أن نتلمسه في أي منطقة في العالم، سوى أن هذا الاستهلال، يقرَأ لاحقاً في سياق فكري آخر، يترجم بؤس المتحول في الزمكان.

إن الموقع هو المعمّق في السالف ذكره (تقع بلوشستان على جنوب- شرق الهضبة الفارسية- البلوشية، مع مساحة تقارب 600000 كم مربع، وذلك في منطقة غنية التنوع، وتضم في داخلها أيضاً تشكيلة اجتماعية واسعة، في مساحة هي أكبر من مساحة فرنسا"551500 كم مربع... ص15).

وما يرِدُ لاحقاً، يعزّز من نوعية العلاقة بين المكان وأهله( ساهمت الجغرافيا في تهيئة البلوش في معتقد اختلافهم عن الآخر. وبالتالي، فإن الثقافة البلوشية تدين بالكثير لجغرافيا المنطقة... ص15).
ولعل الدال على ذلك، هو عراقة تاريخ هذا الشعب، وكيفية انبثاقه في التاريخ بين الشعوب تاريخياً( تفاعلت بلوشستان لقرون طويلة مع الحضارات القديمة مثل آشور وبلاد ما بين النهرين، وفارس، والهند، في تجارة التوابل الثمينة واللبان والمر، حيث اتصلت العديد من الشعوب واللغات والثقافات... ص16).

والأهم هو ما يجب التنبه له، أعني به جانب خصوصيته، كما هو متداول لدى غير المطَّلعين على تاريخ البلوش، ووجود الشبه بينه وبين الكرد، وكما هو المتداول سلبياً عن نوعية صلات الكرد بجيرانهم كالفرس مثلاً (الشعب البلوشي متمايز عن النخبة البنجابية والفارسية، التي تهيمن على السياسة الباكستانية والإيرانية. إنهم مسلمون ولكنهم أكثر علمانية في وجهات نظرهم" بطريقة مماثلة للأكراد"، مع لغتهم الخاصة وثقافتهم المتميزة. ص16).

ولعل المتوقع هو ما أثاره الباحث فيما بعد، في سياق المكابدات النفسية والتاريخية بالنسبة للشعب البلوشي، عبر انتفاضاته ومساعيه إلى الاحتفاظ على استقلاليته في الهوية ومظاهر الحضارة، والجهات الجغرافية التي ترتد إليه (تاريخ البلوش هو سلسلة من الانتفاضات من أجل الحكم الذاتي والاستقلال. يحكي هذا التاريخ عن الإبادة الجماعية، الإدماج القسري، التهجير، والحياة في المنفى. منذ نشأتها، قامت الهوية القومية البلوشية على مثل هذه التجارب.ص 17.).

وحيث الحديث عن المنفى يضعنا في حُمَّى المكاشفة لما هو عنفي وعاصف بذات الأهلي، أي حيث يعيش هذا منفى في وطنه وعلى أرضه، وحتى بالنسبة لذاته.
وما ينوّه إليه عن التحديات الداخلية، يكاد يماثل ما يكون عليه التاريخ الكردي (ففشل القبائل في التوحد تحت مظلة القضية القومية البلوشية، إنما هو استجابة للسلوك القبلي في كل من الثورات البلوشية في إيران وباكستان.ص19).
والتذكير بالأكراد يدعم هذه العلاقة، بقدر ما يمضي بنا بعيداً إلى التفعيل القبلي المريع في المستجدات التي تبلبل الوضع أكثر (كما الأكراد، البلوش أمة كبيرة في جنوب غرب آسيا من دون دولة خاصة بهم.ص19).

والتعداد السكاني لافت هنا( يصل تعداد البلوش في بلوشستان إلى ما يقارب 15 م ن. ص19).
وما يدعو إلى متابعة متأنية ومركَّبة للكتاب، هو الجغرافي والتاريخي، عبر غزارة المعلومات، وكيف أنها تخضع لتصويبات وأحياناً إلى تعليقات تضعنا إزاء أكثر من كتاب في كتاب واحد، والفاجعة هي في نهاية المقدمة، حيث يكون هناك سرد مسبق عن مأسوية وقائع تاريخ هذا الشعب،( حتى عام 1908، والتي حددت مصير الأمة البلوشية حتى هذا اليوم. إذ هي شذرات تفرقت بين دول وكتب، وما حفظ في الصدور..ص 25).
ربما إحلال كلمة" الكردية" محل" البلوشية" يعمق الروابط هنا وهناك، ويقرّب بين تاريخين مهدورين على مذبح رغبات الدول ..


فيما بعد، أي ما يخص التعريف بالكتاب ومؤلفه، نجدنا في معايشة فرصة توضيح معرفية أخرى، كأن المقدمة مستمرة. يأتي تثمين الكتاب رغم المآخذ عليه، لأنه يضم معلومات لا غنى عنها عن البلوش تاريخاً وجغرافيا.
ويأتي تعليق الباحث عن مفردة" بلوشستان"، بأنها ( تعني "بلاد البلوش". ص27). وما يفيد أيضاً، هو لوريمر المعد للكتاب، فقد كان موظفاً( لدى الحكومة البريطانية في الهند، بين عامي 1903و1915، للاستعمال البريطاني الرسمي. ص28). والعمل موسوعي، وقد طبع في كلكتا الهندية سنة1915 بشكل محدود، وصنّف تحت تصنيف(سرّي وللعمل الرسمي)، حيث أعلِن عن نشره رسمياً سنة 1970..ص28)). ولاحقاً ترجمت الموسوعة إلى العربية في عُمان، وترجمة أخرى في قطر، وعليهما اعتمد الباحث"ص31".

وما يُستأنف باسمه لاحقاً في ( منهجية الكتاب) يحفّزنا أكثر على التروّي في قراءته، بوصف الكتاب ثمرة جهود مجموعة معتبرة من المعتمدين لدى بريطانيا العظمى، عبر جهازها المؤسساتي والاستعماري متعدي القارات( لقد ضم هذا السفر الكبير صفحات من تاريخ مجهول عن منطقة هي من أهم مناطق العالم موقعاً. فهي وثيقة من أمهات الوثائق البريطانية عن بلوشستان والبلوش..ص33)، حيث إن هذا التوضيح، يشي باستثنائية المكانة الجغرافية وعمق المصالح المتعلقة بالتاج البريطاني، وكون بلوشستان تقع في منطقة استراتيجية وتتوسط مناطق استراتيجية، كما لو أن إمكان البقاء بصفة المستعمِر في هذه الجهات الشاسعة والغنية، يعتمد على أضحيات مكانية وبشرية، في تقطيع الأوصال، وتقديم رشى ٍ، تكون من دماء بشر وطموحات بشر مشروعة، حيث تجرَّد من خاصيتها الإنسية، ببعثرتها حدوداً ووفوداً وجنوداً..
ما يستحق التذكير به، هو أن الباحث يوُلي أهمية لهذا السفر الكبير والخطير، وتكون المفارقة قاتمة، وهي تتمثل في كونه صادراً بتوقيع رجالات ساسة بريطانيين أو منخرطين في لعبة السياسة الاستعمارية، لا يمكن لمفهوم" الشرف العلمي" مهما اتَّصف بالقيمة الموضوعية، أن يمنحهم براءة حسن سلوك تاريخياً وأخلاقياً، ولكنه لا مناص من الإصغاء إلى أصواتهم وقد صارت كلمات، لأن لا بديل عن ذلك، وكما كثافة المادة أو غزارتها تكون استقطابية، وهذا يعني مدى عمق المأساة لشعب كامل، وأي شعب آخر مثيله، حين يتحرى تاريخه في ذات من استبد به وأحاله دون جغرافيا وكيان سياسي.

وكأن الكلمة الأخيرة فيما بعد، تكون بمثابة الجواب على ما يمكن القيام به وتغيير المصير (وتبقى هذه الأمة البلوشية تكافح وتناضل من أجل استرداد حقوقها المشروعة من التعلم بلغتها الأم البلوشية، وتحافظ على هويتها القومية المهددة، وممارسة شعائر دينها بحرية ودون تهديد وتضييق، وتهديم لدور العبادة، والتمتع بثرواته أرضها المسلوبة..ص37).
كأني بالمتكلم هو كردي بن كردي، لكنه بلوشي بن بلوشي، إذ وحدة الحال تسمّي هويات مختلفة هنا وهنا، ومن خلال خاصية المنفى الإنساني الروحي، بالطريقة التي استرسل ادوارد سعيد، ذات يوم في وصفها وتبين طرائفها وغرائبها، أي منفي الوطن، وكيف يكون في القرب والبعد (.. ليس وحيداً تماماً مع البيئة الجديدة ولا هو تخلص بالكامل من القديمة. محاصراً بنصف ارتباط ونصف انفصال، مشتاقاً إلى الماضي وعاطفياً من جهة، ومقلداً وبارعاً أو منبوذاً غامضاً من جهة أخرى.ص62)، كما ورد في كتابه (الآلهة التي تفشل دائماً، ترجمة: حسام الدين خضور، دار التكوين، دمشق/2003)، وكأن الباحث منتم ٍ إلى عالم هذا المثار..

في المنحى الجغرافي

ثمة تنوع في العناوين ذات الدلالة على جغرافيا غنية بمواقعها وبلداتها ومناطقها وثرواتها الطبيعية، تنوع أثار لعاب الطامعين في بلوشستان، بقدر ما يكون تأكيداً على وجود هوايات سياسية، تجعل الجغرافيا هذه حلبة صراعات دامية.
وأول ما يجب التنويه إليه، هو أنه من الصعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً التوقف عند كل العناوين الفرعية في الكتاب، حيث الكتاب يتضمن العشرات، وأكثر، ذات الصلة بما هو جغرافي، وفي الطرف الثاني، بما هو تاريخي.
إن جُل ما أسعى إليه، كما نوَّهت هو الإشارة إلى بعض منها، والتشديد على ضرورة قراءة الكتاب بالكامل، نظراً لأهميته طبعاً، وخصوصاً بالنسبة لشعب عُتّم على جغرافيته وتاريخه كثيراً، وهذه هي إحدى حسنات التعامل مع الحقيقة طبعاً.
مثلاً، لدينا" ساحل مَكُران الغربية"، والتشكيل بالصيغة السالفة ضرورية لتبيُّن الفارق الكبير بين الأصل البلوشي للكلمة، وكيفية ورودها عربياً، إلى جانب التصريف السياسي أحياناً، إذ نقرأ في هذا النطاق ما يخص الحدود والمناخ والمواشي وحيوانات النقل...الخ، لكن ثمة تصويباً مزدوجاً: ثمة نقد موجَّه إلى مترجمي الدليل إذ غيَّروا بعض النصوص الواردة فيه، كما في حال وضع" الخليج " محل" الخليج الفارسي"، وقول الباحث بأن لا بد( أن أزيلَ كذلك النسبة الفارسية عن مَكُران حيث هي أرض محتلة لا تشكل جزءاً من الدولة الفارسية...ص45).

بالنسبة للحديث عن ( قبائل البلوش)، نقرأ( اسم( بـَلوُشْي) في هذا الدليل هو الاسم الذي اصطلح عليه الانجليز ليدل على الجنس أو القبائل التي تشمل موضوع هذا المقال. ولكن الشكل الصحيح للكلمة في بلوشستان هي بلوچ للمفرد وللجمع. والاصطلاح بلوچي، يشير إلى اللغة التي يتكلم بها البلوش..ص47).

والبلوش باعتبارهم مجموعة قبائل، كما يذهب الباحث، ومثال ذلك في عُمان، فهناك (الهوت "الهوتي"، والجدگال.. ورئيس...الخ ص48)، إنها مجموعة القبائل التي تشكّل كيان الأمة..
ويصوّب الباحث بقدر ما يوضح جانباً لغوياً واثنياً للموضوع( الشائع في العربية هي صيغة "بلوش" بضم الباء، بينما الصحيح هو"بلوش" بفتح الباء وضم الواو وشين أعجمية Baluch، وتستعمل في اللغة البلوشية للمفرد والجمع والمذكر والمؤنث، بينما في العربية يقال "البلوش، بلوش للإشارة إلى الجمع، و"بلوشي وبلوشي" للإشارة إلى المفرد الأول للمذكر والثانية للمؤنث، ولفظ اسم بلادهم هو بلوشستان، بينما في العربية ترجم في البداية إلى"بلوخستان" و"بلوجستان"، ومن ثم شاع التعريب الأقرب" بلوشستان".. واسم بلوش يطلق على جميع من ينتمي إلى القومية البلوشية، سواء كانوا يتحدثون باللغة البلوشية أم لا، كمثال البراهوئيين الذين مُيزوا عن البقية بسبب لغتهم فقط... وهم من الأرومة البلوشية، ولغة البلوش هي بدورها من عائلة اللغات الهندو- أوروبية من الفرع الإيراني الشمالي الغربي كالكوردية.. وفي بلوشستان، يستعمل نعت" البلوش" كمثال" هؤلاء بلوش" للدلالة على أن هؤلاء أناس محترمون. .. للجميع. ص47)..
ولا بد من التذكير بنقطة أخرى مهمة، يشير إليها الباحث، تخص مذهب البلوش (حيث أن الغالبية العظمى من الشعب البلوشي تتبع الإسلام طبقاً للمذهب السني الحنفي، مع وجود أقلية تاريخية تتبع المذهب الزِگري يصل تعدادها من 600000 إلى 700000 تقريباً متمركزة في مكران الشرقية..ص50).
وهذا يصلنا بمسألة دقيقة، وهي أن اعتناق مذهب دون آخر، يمكن تحرّي أسبابه من خلال طريقة التعامل مع الدين، وفي الوقت نفسه، ما كان عليه هذا الشعب أو ذاك من خصوصيات دينية وعرقية وثقافية سابقاً ولاحقاً، ومن ثم فإن الحديث عن حنفية المذهب، يفصح عن قابلية البلوش على الانفتاح والمرونة في التواصل والتحاور مع الآخرين، بقدر ما يعبّر ذلك عن نوع من آلية الدفاع عن الذات المكانية والتاريخية، والقدرة على تأكيدها أكثر، لأن المذهب يمكّن من كل ذلك.
وبهذا الصدد، فإن ما يقوله الباحث يمكن تطبيقه على أمور كثيرة لها صلة باللغة وفقهها، حيث التعامل معها من طرف خارجي، له لغة مغايرة في التهجئة والتركيب أو الجانب الفونتيكي، كالعربية للعرب، لا يتم التدقيق في التدقيق، سواء أن الممكن قوله، هو أن مراعاة ذلك تدخل في بند فهم الآخر في لغته، وخاصية الصوت لديه أيضاً من جهة، وكون الذين مارسوا سيطرتهم على بلوشستان، وغيرها، كان الذي يهمهم هو كيفية احتواء البلاد والعباد واللغة ضمناً، وليكون تحوير اللغة أو تصريفها متجاوباً مع ذائقة المسيطِر، وتعبيراً عن علاقات القوة والاستحواذ طبعاً..
ذلك ينطبق على " مَكُران الغربية" بالذات، وتقع في مقال طويل نظراً لأهمية المنطقة..
من ناحية حين يصوّب الباحث ما ذهب إليه لوريمر من أن السكان في مكران الغربية عبارة عن قبائل مختلطة ادَّعت أنها من سلالة العرب الذين سكنوا المنطقة أصلاً..ويرى أنه (لم يبين مصدر هذا القول)، ويستدرك (ومن المعلوم أن سياسة "فرق تسد" التي اتبعها الاستعمار البريطاني واضحة من تلميحات لوريمر..ص134).
ويردُّ على كاتب عربي هو "سعود الزيتون الخالدي، وزعمه أن (البلوش عرب استعجموا..ص134)، طبعاً لانتشارهم في أقطار الخليج وغيرها، وقبل ذلك لوجود نظرة لا تاريخية تنطلق من خاصية مركزية التاريخ العربية الإسلامية..
ويرى الباحث أن الخالدي زعمَ ذلك دون دليل، وهو يعمم حديثه، بدعوى أن جموع العرب خرجت من منطقة "بلوص" في بادية الشام، ويرى الباحث أن لا وجود لمنطقة بهذا الاسم في بادية الشام بأسرها بتوثيق جغرافي.. إلى جانب توضيحات أخرى تتعلق بما هو تاريخي ونسَبي، وهذا ينطبق على "البلوص" باعتبارهم البلوش لدى الخالدي، وذلك غير صحيح عبر استعانته بمصادر تاريخية، كما في حال جواد علي الصائب في "مفصله"، ويشير إلى مدى الاستعمال الخاطئ للأنساب في التاريخ العربي الإسلامي، من خلال الخلط أو الدمج بين قبائل وشعوب وأمم ليست هكذا في الواقع، ذاكراً هنا كتابي ( لقبيلة الضائعة.. ص138)، حيث أتعرض لهذه النقطة، والرهني المعتمَد عليه من قبل ياقوت الحموي في موسوعته كان يزيف الحقائق، حيث أورد الباحث العديد من المصادر التاريخية العربية والإسلامية بصدد ذلك من قبل الشيعة والسنة معاً.. ويرى أن ذلك ينطبق على الأكراد، ومن خلال ما أثره في كتابي ذاك (إن رواية الأصل العربي للأكراد خاصة، كما اتضح لنا، قد نشأت في الوسط العربي...ص 145).
ولعل الناظر في المساحة الواسعة التي يخصص فيها الباحث لتصويب معلومات واردة عما هو نسبي يخص البلوش "134-148" لا بد أن يتلمس حكمة هذا التخصيص، وهي تكمن في تبين استسهال الآخر غير المنتمي إلى المكان وأهله، في الكتابة، دون مراعاة ما هو تاريخي، شعوراً منه أنه الناطق بالحقيقة، لأهداف عقيدية أو سلطوية وغيرهما.

ومن ناحية أخرى، حين توغَّل عميقاً في المساحة المخصصة لتصويباته وتعليقاته وإيضاحاته، ما يقرّب مفاهيم مثل النسَب والعرق والثقافة والتاريخ...الخ، أكثر قرباً من الواقع العياني، وليس كما هو متشكل في التصور الثقافي الموجَّه.

وفي مثال آخر، يشير إلى " التاريخ الدامي للبلوش في ظفار"، لحظة تصويبه وتوضيحه لـ"الساحل الفارسي للخليج"، من خلال انخراط جنود البلوش في صراعات المنطقة "عُمان خصوصاً،ص89" ولتعزيز خاصية انتشار البلوش جغرافيا.
وفي مثال"گيابان"، وهي (منطقة من الساحل البلوشي منضمة إلى التنظيم المعروف باسم (موانئ الخليج)..ص119).
يقدم لنا الباحث فكرة عن نسَبه بأنه ينتمي "للهوت" وهي من أهم قبائل المنطقة..ويرد على معد الموسوعة حين يصف أهل المنطقة بالتخلف والجهل، بأن ذلك غير صحيح، إذ إن حالة عدم الاستقرار وعدم التحضر أيضاً وحالة الفقر المدقع (بسبب سياسات الدولة الفارسية والخلافات المحلية التي حالت دون توجه السكان إلى التعليم والتمدن..ص120).

والحديث عن " الذكريين" ليس أكثر من التعريف بهم، بصفتهم من الفرق المهدوية، ويتركزون في جنوب- غرب بلوشستان الشرقية، ولا يخفون ارتباطهم بالصوفية وتأثرهم بدعواهم السياسية ومطالبهم في التمايز، وما يعزز المقولة هذه هو جانبهم الطقوسي، مثلاً، وكما أورد الباحث يعتبرون (كوه مُراد، مركز الأرض. ويعني " كوه مراد: جبل الأمنيات". الهضبة التي تتحقق فيها الأمنيات" المرادات في العربية والبلوشية"..ص211).

إنه نوع من تقريب العقيدة من الذات الاثنية أو الشعبية للبلوش، ونظراً لاختلافهم الزمكاني والتحديات التي يتعرضون لها.
وحيث إن الحديث عن مركز الأرض ليس أكثر من إضفاء سمة مركزة واعتبار على المكان الموسوم، وليس من شعب، إلا ويعتبر جبلاً من جباله، أو مكاناً مرتفعاً، مركزاً للأرض، أولاً يقيناً من أن لأرضه مكانة سامية لا تبزها مكانة أخرى، ولأن هذا الإجراء لا يخفي رد فعله الواعي أو غير الواعي على الذين يعتبرون الأمكنة تتفاوت فيما بينها قيمياً، وأن هذا التفاوت يكون مبرّراً لدخول الشعوب والأمم في علاقات السيد والعبد، أو التابع والمتبوع( بالنسبة للأمكنة، مثلاً، يمكن قراءة ما أورده مرسيا إلياد في كتابه" المقدس والدنيوي"، ترجمة: نهاد خياطة،العربي، دمشق/1987، ص37، أما نظرة كل شعب إلى الآخر، فيمكن التنور أكثر من خلال الوارد في كتاب برومليه، بودولني" الاثنوس والتاريخ"، ترجمة: طارق معصراني، دار التقدم، موسكو/1988، بدءاً من المقدمة، ص 3،وما بعد..).

هذا يدفع بنا إلى تأكيد علامة وحيدة يمكنها أن تكون الجامع الأكبر، أو القاسم المشترك بين شعوب العالم، خارج جملة من التفاوتات القيمية المولَّفة بذرائع مختلفة، وحيث لا يمكن أن نجد شعباً يستطيع ادعاء القيمومية على سواه. القضية إذاً، هي زاوية النظر إلى العالم ومن يقيم فيه، وليس من يستطيع النظر أكثر من الآخر، أو الدفع به لأن يكون كما يريد هو، شاطباً على تاريخه أو عراقته وأسمائه في كل ما يعرّف به (أستحضر هنا كتاب تودوروف "فتح أمريكا: مسألة الآخر"/ ترجمة: بشير السباعي، دار سينا، القاهرة/1992)، وفي سياق العلاقة غير المستقرة لأسباب ثقافية وسياسية بين الأنا والآخر، وهي العلاقة التي تكاد تلخص تاريخ البشرية بامتياز، وماذا يعني أن تكون الأنا وكيف يكون الآخر هنا.."ص9)..الخ.

الجغرافيا إذاً لم تسلم تاريخياً من لوثة التدخلات التاريخية والثقافية وزحف القيم المسلحة والمرعبة معاً.
إن القسم الثاني من الكتاب، بدءاً من الصفحة"213"، يماد يتكلف بتقريب الصورة العيانية من الأذهان، بحيث لا يعود في مقدور متتبع الأثر التاريخي، الخروج عما هو قائم، إنما دون نسيان الوعي المكثف لتاريخ غيّر في معالم الجغرافيا.

وكما هو المثار في القسم الجغرافي، حيث تتنوع أمكنة البلوش، كما يشار إلى حضورهم المختلف من مكان لآخر، وعبر عشرات الأمكنة والجداول المرافقة والإحالات إلى المصادر والمقارنات..الخ، يكون التاريخ نظيراً تدوينياً ملبّياً لأهواء أو تصورات تتصل بالذين أسهموا في كتابة هذا التاريخ وحاولوا تفعيله.

في المعبر التاريخي

وأسمّيه "المعبر" نظراً لأدواره المختلفة، وعدم ثباته، كما هي استراتيجيات العلاقة البينية بين شعب مغزوٍّ، وآخر غاز ٍ يتمثل في نظام سياسي، يعتبر السيادية خارجاً من تداعيات القوة المبررة ضمناً، وممثلي سلطة تحتكر جغرافيات شتى، كما هو المقروء في حيثيات الكتاب، منذ ظهور الأطماع البرتغالية خارج حدودها، وتحالف البرتغال مع فارس ضد بلوشستان، وما يشدد عليه الباحث سنة 1515، ودخول بلوشستان حلبة الصراعات الجانبية وانقسامها"ص215".

ولعل قائمة العناوين الصغيرة، تدل دلالة بالغة على ديناميكية التاريخ البلوشي ومأسويته معاً، من جهة تعرض البلوش لغزوات الآخرين، وكيفية التمكن منهم، وبعثرتهم في جهات الأرض، سواء كانت الأطماع إقليمية" فارس، الأفغان"، أو من الخارج، حيث تبرز الطماع الأوربية، والانكليزية في الواجهة، دون إخفاء دور البلوش في الحراك التاريخي، وحتى دخولهم في مناورات وتحالفات مختلفة، تقديراً من ساستهم أن ذلك يعزز مواقعهم، كما في إشارة للباحث (ساهم البلوش بشكل فعال في إضعاف الدولة الصفوية في عام1698، بعدما قام القائد الفارسي طهماسب بك بادعاء ملكية مستونگ وكلات وحتى كچهي، غير أن جيش الملك سمندر خان البلوشي تصدى لهذه الحملة وهزم الفرس وردهم..ص237).

ولعل تغير موازين القوى ولعبة الأمم الداخلة في الصراعات داخل منطقة معينة، من الأسباب التي تؤدي إلى إحداث تغيير في البُنى الاجتماعية والسياسية ومفهوم الاستقلال الإداري وما يتعلق بالنزوح وتغيير الأمكنة طلباً للأمان.
وعلى سبيل المثال، ما يتعلق بادعاء فارس ملكية مكران كلها سنة1861-1862"ص274"، فهي علامة تاريخية تفصح عن جانب استباحة البلوش من قبل الآخرين، بدوافع مختلفة، والسيطرة السياسية والاقتصادية في المقدمة..

ولاحقاً تأتي التهديدات الفارسية"ص277" تحت هذا العنوان اللافت، أي من منظور الإحاطة المكانية لأغراض الهيمنة.
ولعل إحداث تغييرات تقانية في البيئة، كما في محاولة" إنشاء الخطوط التلغرافية بريطانياً..ص282"، يدخل هو الآخر في سياق التمهيد للاحتلال أو تطويع المكان وأهله، وكل ذلك من طواقم المساعي الاستعمارية واحتواء الآخرين، وليكون ترسيم الحدود بعداً آخر يترجم جملة من الخطوات الداخلة في نطاق السيطرة والأطراف المؤثرة في اللعبة.

وعلى سبيل المثال، يكون الحديث عن النفوذ الروسي في المنطقة قوة مؤثرة أخرى تثقل كاهل البلوش وجغرافيتهم، إلى جانب القوى الأخرى ذات النزوع الاستعماري طبعاً" ص386".

أما الحديث عن " التاريخ العام لمكران الغربية،1896-1905"، فتركيز على استراتيجية مكران هذه، والوارد في كلام المعد يشي بذلك( في عام 1896-1897 أصبح الإخلال بالنظام سائداً، بوجه عام في مكران الغربية. وبدا أن الفوضى كانت تعزى، جزئياً إلى وفاة ناصرالدين شاه...ص402)، إذ حلول الفوضى، يعني البحث عن مسببي الفوضى، ومن يستثمرها، ومن يعد عدته للانتقال إلى المرحلة التالية، أي وضع اليد المكلِفة عليها فيما بعد.
والحديث عن (مؤسسات الجيش الهندي والبحرية الهندية الملكية في جاشك وچهبار، 1905..ص436)، يعمق المأساة..

أو ما يشير بوضوح إلى (السياسة الروسية والبريطانية في فارس، 1896-1905..ص443)، جهة رفع وتيرة الاهتمام الاستعماري ببلوشستان المقسَّمة طبعاً، وليبقى الدور الانكليزي أكثر الأدوار تكلفة في الضحايا وتبديد القيم المكانية، ومن ثم اللعب بمصير شعب كامل، وتحديداً ما آل إليه وضع مكران الغربية ،1905، وكما جاء في تقرير رمز انكليزي استعماري في الصميم، وهو طويل نسبياً، لكنه يمد بأبصارنا صوب مناطق أخرى، من جهة التمزيق الجغرافي سياسياً، وكيف أن نظرة الكاتب والسياسي، أو الممثل الاستعماري تتحدث من الخارج، وهي دائماً هكذا، طالما أن المتغيرات الحاصلة في المنطقة، ومن يكون المسئول عنها، لا تؤخذ بعين الاعتبار، حيث إنها في حال تأكيدها، لما كان التقرير نفسه هكذا، لا بل لما وجِد تاريخ يُتحفَّظ عليه طويلاً، ومن ثم يطلق سراحه، أيضاً لتحقيق مآرب أخرى، مهينة تماماً، لكل من يدعي شرف الانتماء إلى الضمير الإنساني، أو الأخلاق الجمعية، أعني تمثُّل وحدة البشر ومصيرهم:

(هذه القطعة من الأرض هي أقصى أصقاع أراضي الشاه، التي يمكن السفر إليها أو اكتشافها. يقطنها والحالة هذه عنصر غريب يملك غرائز بدوية وعداوة طبيعية عميقة الجذور، تجاه سادته الفرس الكبار. وبالكاد هناك ما يدعو إلى الدهشة من أن السيطرة الإدارية، التي كانت تمارسها الحكومة المركزية عليهم، هي سيطرة تتميز بالسطحية. ونتيجة لذلك، أصبحت هذه البلاد المعدمة، التي غالباً ما أضناها، والحالة هذه، بؤس المجاعات، من عام إلى آخر، أصبحت بؤرة للشقاق التافه بين القبائل، وبؤرة للسلب والنهب القائم عادة على تنافس (الأمراء) الذين يتصارعون بلا انقطاع، من أجل سيطرة الواحد على الآخر..ص463).

هذا التقريب، ليس بمستغرب، وهو يعرّف على طريقة تذوق ٍيغيب عنها كل شعور بالذوق السليم تاريخياً حقاً، وعما هو دائر في بقعة جغرافية، مع إبقاء المسبب خارج دائرة التسمية، وكأني به يذكّرني بما كتِب عن الشعب الكردي هنا وهناك، ولا أدل على ذلك من قراءة كتاب من نوع (أمة في شقاق: دروب كردستان كما سلكتها)، لجوناثان راندل، و(تاريخ الأكراد الحديث)، لديفيد مكدول....الخ، كما لو أن اتحاداً عن بعد، يقرّب بين الضحايا، ويرفع نصاب صرخاتهم، أو احتجاجاتهم، أو مطالبهم، وشرعية حقوقهم المهدورة، وقد اتضحت وتعمقت وأصغيَ إليها أكثر، في مواجهة الجناة التاريخيين ومنهجياتهم المحروسة، وربما أمكن القول أيضاً، أن الكثير مما تعانيه البشرية اليوم، في الوجه المعتبَر مظلماً، ليس أكثر من "خطايا" هؤلاء الجناة، وهم لما يزالوا يؤكدون وجاهتهم في تسمية المكان والزمان، ويفصلون في النزاعات، كما لو أن الذي جرى لا صلة لهم به.

لكن المتعمق في مشهديات الصراعات الدولية، يجد أصواتاً تدين هؤلاء، كما تضعهم أمام مسئولياتهم التاريخية، وكيف أن الماضي لم يمض بعد، وأن مشاكل الماضي ترهق من صاروا باسم الضحايا في زمن العولمة وما يليها من تسميات أخرى، وهذا يضاعف من طبيعة المهام الأخلاقية والسياسية للدول التي تعتبَر متحضرة، إزاء تداعيات ماضيها الكارثي.

في هذا المقام، أحسب أن كتاب (البلوش وبلادهم في دليل الخليج)، وما قام به الباحث أحمد بن يعقوب المازمي من جهد لافت في التصنيف والتصويب والتعليق، جدير بالقراءة، وخصوصاً بالنسبة للذين يعتبرون أن ثمة معاناة مشتركة، أو حتى تاريخاً مشتركاً وتقارباً في اللغة وغيرها، وأخص بالذكر: الكرد، ولعل المتوقع هو أن هذا الكتاب سيكون له صدى متعدد الأبعاد، الأخلاقي والوجداني والثقافي، عند الذين تهمهم قضايا الشعوب المضطَّهدة وتاريخها المهدور، كحال البلوش: الشعب المشتَّت في جهات الأرض، والذين تعلَّم جل اللغات الحية في شتاته، سوى أنه يتوق إلى لغته، وإلى جغرافيا خاصة به، ودولة تُسمَّى باسمه، كأي شعب في العالم، وذلك من أبسط الحقوق وأكثرها بداهة ومشروعية، وإلا فعلينا أن نعيد النظر كما هو جار ٍ في أمكنة شتى، في كل الدعوات الدولية التي تركّز على وحدة البشرية وتشريحها قيمياً!

أحمد يعقوب؛ كاتب وباحث في الانثروبولوجيا الثقافية واللسانيات. مهتم باثنولوجيا منطقة جنوب-غرب آسيا، وتحديداً الدراسات البَلوُشية والكوردية والخليجية. صدر له كتاب (البَلوُش وبلادهم في دليل الخليج 1908-1515)(2012).


 وتحت الطبع ترجمة له بعنوان (القومية البَلوشية أصولها وتطورها، للدكتور تاج محمد بريسيك)
 (2013) كلاهما نشر مؤسسة الانتشار العربي)، ضمن بحوث ومقالات منشورة. يعمل أحمد حالياً على كتاب (ألف عام من الأدب البَلوُشي).

ابراهيم محمود

القامشلي - سوريا.